الأردن

 

بيرت هيلنجر في الدول العربية

بيرت هيلنجر في الأردن.

الثاني والثالث من حزيران

 

كان هذا أو فصل لي في دولة عربية، وكان مليء بالمفاجئات.تم تحضير وتنظيم هذا الفصل من قبل جميلة شرودر. إنها امرأة فلسطينية الأصل ولدت وتربت في الأردن.

قد توجهت لي مرة في المؤتمر الذي عقد في مدينة ماينز في ألمانيا،وسألتني إذا كان من الممكن السماح لها بترجمة كتاب نظام الحب إلي اللغة العربية. وأنا وافقت دون تردد علي ذلك، لأنها تتكلم اللغة الألمانية جيدا. قد أدت دراستها في ألمانيا، كما أنها متزوجة من رجل ألماني. وقد قامت هي نفسها بنشر هذا الكتاب بطريقة جميلة ومبهرة. هذه كانت البداية.

 

لتقديم ورشة عمل في الأردن عن الوقوف العائلي، بحاجة إلي حدة الحواس وشدة الانتباه والتكيف والتأقلم مع حقل ذهني جديد ومختلف. هذا الحقل مليء بالجمال والقوة.

هنا تحمل الوزارات الحكومية القيادة، بطريق لطيفة وحريصة لسلامة الشعب والدولة. هكذا سمح لنا التقاء المعرفة، بأن السفر إلي الأردن ومبادرة تقديم فصل دراسي هناك، وبطريقة خاصة، غير مسموح به، ولا يمكن تخيله دون موافقة هذه المراكز الحكومية.

من جهة أخرى فإن هذه المبادرة تكتسب القوة إذا دعمت ووفق عليها من قبل الوزارات الحكومية، حيث أنها تمتلك بذلك قوة الاعتبار. فواز شرايحه مدير الجمعيات الخيرية في الأردن، والمساعد في إنشاء جمعية أبناء الجنوب، والتي هي عبارة عن بيت للطلبة. لدعم طلاب المناطق الجنوبية في الأردن. فتح لنا الأبواب، وهكذا استطعنا تقديم ورشةعمل في القاعة الكبيرة من المبني، وذلك بعد موافقة الرئيس المسؤول عن الجمعية. هذا الرئيس هو رئيس الوزراء السابق في الأردن. هكذا كانت حركتنا داخل حقل اجتماعي تطوعي كبير وعظيم، جعلنا نشعر بأنه يحملنا معه ويدعمنا بالقوة.

بالمناسبة، قد حضر فواز شرايحة الفصل مع زوجته، وقد أبدى برأيه الشخصي بما يتعلق بعملنا، بطريقة لطيفة مختصرة لامست قلوبنا. حيث لا يمكن وصف الوقوف العائلي أفضل من هذا الوصف.

في اليوم التالي، والذي كنا قد خططناه، قام فواز شرايحة بدعوتنا لتناول شاي العصرية في بيته، وكان قد دعي ضيوفا آخرون، من ضمنهم ذلك الرجل من وزارة التنمية والذي ساعد بدوره جميلة في التعرف علي فواز شرايحة. هذا الرجل والضيوف الآخرون الذين لا يعرفون شيء عن الوقوف العائلي، كان عندهم أسئلة عديدة. لذلك عرضت عليهم أن أوضح لهم ذلك بمثال وبشكل تطبيقي.

من مجموعتنا اخترت زوج جميلة ليمثل أحد الرجال الموجدين في مجلس الضيافة، وأوقفت أخ جميلة ليمثل والد هذا الرجل، بعد فترة قصيرة ظهر لنا بأن العلاقة بينهما محملة بثقل، وهذا الثقل سحب أغلبية الموجودين معه في مداره. قد أنهيت وقطعت أنا الوقوف، لأن هذا كان إظهار وتوضيح مصغر للوقوف العائلي فقط. وبعد ذلك زاد التفهم وحب الاستطلاع عند الضيوف.

والأهم في هذا اللقاء، أن فواز شرايحة قرر بأن يعمل معنا فصل دراسي آخر في الأردن، وأنه سيقدم كل ما باستطاعته من خدمة ومساعدة.

أما الآن لنعود للفصل الدراسي نفسه. كان عدد المسجلين للحضور46 شخصا، ولكن الذين حضروا فعلا كان ما يقارب 20 فقط. سبب حضورهم كان في الغالب لطلب شخصي عندهم. وبعد حصولهم علي مأربهم يبقون وقتا قصيرا ثم يذهبون. ولكن بعد مذهبهم يأتي غيرهم.

ولم يكن اهتمام الحضور تعلم أو التعرف علي الوقوف العائلي كوظيفة، بقدر ما كان اهتمامهم إيجاد حل لأمورهم الشخصية ومشاكلهم العائلية. ولهذا السبب جاء بعضهم مع أطفالهم. من بين الحضور كانت هناك امرأة عامله في أحد المستشفيات. كانت تريد معرفة، إذا كان باستطاعتها عمل شيء لرجل هي تعرفه جيدا. إنه مصاب بالسرطان والسكر معا، وكان راقد في ذلك الوقت في المستشفي.

في البداية ومن ضمن الصعوبات التي واجهتنا في هذا الفصل، أننا لم نستطيع اختيار ممثلين، ليقوموا بالأدوار. ولحسن الحظ كان زوج جميلة مرافقا لها في السفر، وحظ جيد آخر، كان وجود ياسين رسلان رجل لبناني مقيم في ألمانيا، كان الوقوف العائلي بالنسبة له شيء مألوف. قطع زيارة لأهله في لبنان، ليكون موجودا معنا ومرافق لنا في هذا الفصل. وهكذا كان ممكنا لي اختياره ليمثل الرجل الذي يعاني من مرض السرطان. بعد أن أوقفته بلحظات، بدأ بالبكاء والنشغ كما يبكي الطفل، نظره كان ساقطا علي الأرض. هنا كان واضحا بأنه ينشد إلي إنسان عزيز عليه فقده في طفولته. بعد لحظات سقط علي الأرض، عندئذ طلبت من زوج جميلة أن يلقي بنفسه إلي جانبه. هذا بدوره ألقي بنفسه بالعرض وكأنه يريد أن يقرب رأسه اتجاه الآخر، ثم لامست أيديهما بعضها.

هنا قطعت أنا الوقوف وسألت المرأة إذا كانت تعرف إلي أي شخص متوفى يشعر هذا الرجل بالانجذاب إليه.ولكنها لا تعرف أي شيء. وبعد فترة الاستراحة قالت ، بأن هذا الرجل المصاب بالسرطان، كان يلعب عندما كان طفلا مع أطفال آخرون بالقرب من بركة ماء، فوقع أحدهم فيها وغرق. ولم يكن باستطاعتهم إنقاذه. وهذا هو نفس الموقف الذي ظهر لنا في الوقوف الذي قمنا به. هنا أصبح واضحا للمشتركين، كيف يتم الوقوف العائلي، وأي قوي مؤثرة فيه.

بعد الظهر جاء سبع طلاب من سكن الطلبة، كانوا فضوليين فقط . بدأ كل منهم بالثرثرة والضحك مع الآخر. ولكن بعد لحظات أصبحوا هادئين، خصوصا بعد أن عرضت عليهم التأمل الروحي، والتي كنت من خلالها أوصال الفرد منهم بحب إلي والديه.

أحد الطلاب والذي يدرس التصميم، لم يكن متأكدا من شعوره اتجاه دراسته، حيث أنه كان في صراع داخلي بما يخص دراسته من الناحية النظرية والناحية العملية. هنا عرضت عليه القيام بالوقوف لاختبار موقفه من دراسته! في الوقوف الذي قمنا به، كان واضحا بأنه لا ينشد اتجاه الطرفين، أي لا القسم العملي ولا القسم النظري، لذلك أنا قمت بإبعاده عن الطرفين وجعلته ينظر إلي اتجاه جديد. وهنا شعر بالراحة. بعد نهاية الوقوف أكد هذا الطالب في المجموعة أنه يفضل ويرغب بدراسة شيء آخر. وفي نهاية النهار سألوني الطلاب، إذا كان بإمكاني أن أقدم لهم المساعدة، بما يتعلق بالامتحان الذي سيقدمونه في الغد. أنا طلبت منهم أن يقفوا بجانب بعضهم البعض، وأوقفت علي مقابل لهم شخص يمثل الامتحان. قلت لهم، عليهم أن ينظروا بلطف للامتحان. بعضهم استطاع فعل ذلك بسهولة وبعضهم بصعوبة.

أنا قلت لهم "نحن نستطيع الآن أن نرى مَنْ منكم سينجح ومَنْ لا ينجح". في النهاية استطاعوا جميعهم النظر بلطف إلي ممثل الامتحان، وممثل الامتحان استطاع النظر بلطف إليهم.

هكذا وبلطف قاموا بوداعي في نهاية النهار شاكرين وبنظرات منفتحة. وهنا أصبحوا مختلفين عما كانوا.

وبنفس المثيل كان اليوم التالي. حضورا وإيابا. كثير منهم كان عليهم الذهاب إلي أعمالهم، وأن اهتمامهم كان لأمر شخصي وليس اهتمام بالوقوف العائلي بحد ذاته كوظيفة ومهنة. ونتائج ذلك أننا لم يكن باستطاعتنا إيجاد ممثلين من المجموعة. فالواقع الملموس، أن هذا الفصل كان مساعدة حياتية بحتة، حيث أن المشتركين غادروا القاعة بعد حصولهم علي مآربهم. لهذا، كان يجب عليّ الاعتماد والثقة الداخلية الكاملة بتأثير التي تتركها الجمل.

في نهاية الفصل جاء رجل عامل من نفس المبني، وقال: أنه إذا قرفص ثم نهض في اللحظة نفسها، يشعر دائما بالدوخة، وهو خائف أن يقع في يوم ما. طلبت منه أن يجلس بجانبي وأن يغمض عينيه. وبعد لحظات جاءتني الجملة المفيدة له. عندئذ قلت له: بأني سأقول له جملة، وبعد ذلك عليه أن يعود إلي مقعده دون أن يسأل أي سؤال. أنا قلت له الجملة، والتي عليه أن يقولها داخليا لشخص آخر. الجملة كانت: "أنا سأظل مطروحا علي الأرض". الجملة أصابته مباشرة. عاد إلي مقعده، وكان في حالة قضائية داخلية مع نفسه. لقد تركت له الوقت الكافي لذلك. كان ظاهرا، بأن هناك شيء مهم حصل في داخله. في نهاية الفصل ودعني بشكر عميق.

والشكر الحاسم لنجاح هذا الفصل يعود لـ جميلة شرودر. إنها كانت القوى المحركة والوسيطة بكل ما في الكلمة من معنى. مترجمة وعاملة معنا ولنا في الوقت نفسه.

لو حاولت استرجاع النظر لهذا الفصل فأنا أقول: بأن هذا الفصل كان ممتلئ بالمعرفة والخبرة الجديدة الخاصة في نوعها لنا جميعنا، وكذلك خبرة جديدة وخاصة وشخصية بالنسبة لي أنا. الانفتاح والضيافة والإنسانية بهذا الجمال، كانوا هدية كبيرة لي.

الظاهر بأن العالم العربي منفتح داخليا للمعرفة والإدراك بما يخص الوقوف العائلي. ولكنه يختلف بانفتاحه عما كنا نحن نتوقع في البداية. منفتح بطريقة خاصة ومختلفة في النوعية والجمال.

في اليوم الذي سبق هذا الفصل، قمت بتحضير نفسي داخليا لهذا اللقاء. حيث رغبت بأن أتجاوب مع هذا الحقل باحترام وتقدير. ونتائج التحضير النفسي الذي قمت به، لخصته في هذان النصان.

 

أنا مثلُك

لماذا أنت تختلف عني؟ لأن لك والدان مختلفان عن والديّ، لأنك تأتي من عائلة أخرى، وربما لأنك تؤمن بدين آخر. وأن أمنياتك تختلف عن أمنياتي. ولأنك مع عائلتك لكم ماضي مختلف ومستقبل مختلف أيضا. أو ربما هم معرضين لخطر معين ومختلف، ربما يجب عليهم الدفاع لحماية أنفسهم من هذا الخطر.

ولكن بما أنك أنت تختلف عني، هكذا أختلف أنا عنك. هذا الاختلاف يجعلنا في الأعماق متساوون. لأنني أشعر وأدرك بمثيل الشيء الذي يحرك نفسك من الداخل. فهنا أنا أتبع حركتك حتى أستطيع فهمك دون أن أصبح مثلك، وأنت تفهمني دون أن تصبح مثلي.

ما دمت أنا أسير في نطاق حياتي، وأنت تسير في نطاق حياتك، فستكون نسبيا علاقتنا سهلة. لأننا قلما سنلتقي، وقلما نبادل حياتنا مع بعضنا البعض. أما إذا دخلت أنا في نطاق حياتك، أو حتى دعوت عندك لمشاركتك حياتك لبضع الوقت. هنا أترك أنا نطاق حياتي لبضع الوقت. فيصبح نطاق حياتك هو أيضا نطاق حياتي. كيف عليّ أن أتصرف الآن، حتى أشعرك بأنني اقدر وأحترم نطاق حياتك، وحتى أشعرك بأنني مثلك؟

أنا أشعر مثلك، أنا أفكر مثلك، أنا أكرم الذي أنت تكرمه، أنا آخذ الذي تقدمه لي أو تضيفني به. وأنا أصبح غنيا بالشيء المهم القيم لك.

هل أفقد أنا شيء هنا؟ لا، بالعكس، أنا أصبح أكثر وأغنى عما كنت.

 

الوقوف العائلي كمصدر للنقاء الروحي

في السير مع الذهن واتباع الحركة الذهنية. نخطو ونلتقي نحن هنا مع جميع البشر كما هم في مصدر الحياة المليء بالنقاء والطهارة.

ما معني ذلك؟

البشر كما هم بما يفعلون، وبما يعتقدون، أو ما هي أمنياتهم، ومهما كانت أفعالهم الخاصة بهم لخدمة الكل، ولخدمة الكل في الإنسانية، ومهما كانت حدودهم أو مهما كانت آلامهم وأقدارهم. فإن علاقتنا النسبية لهم تظل نقية.

الآخر يظل نقي من الشيء الذي نحن فيه، ويظل نقي من أفعالنا، ويظل نقي من اعتقادنا وأمنياتنا، ويظل نقي وطاهر من حدودنا وآلامنا وأقدارنا.

لذلك، وفي دولة عربية، يدركون المشتركون، والذين يريدون تعلم الوقوف العائلي عندي، بأنني نقي وأسير بمسيرة الحركة الذهنية الكاملة التي في داخلهم، أسير مع الحركة الذهنية لديانتهم ولغتهم وحضارتهم وقدرهم.

هذا ساري مفعوله عندما أدخل بلد آخر لإطلاعهم علي الوقوف العائلي الذهني الروحي. في اتباع هذا المصدر الذهني والروحي، يظلون، هم أنقياء مع أنفسهم، كما أظل أنا نقي مع نفسي.

هذا المصدر النقي يظل باستمرار في حركة ذهنية وروحية مستمرة، كما أن الذهن في حركة مستمرة يمسك بالجميع بنفس المقدار.

وفي جميع الأحوال يمسك بهم في حركة نقية طاهرة. هذا معناه أننا نحن جميعنا نخضع لهذه الحركة النقية ومرتبطين في داخلها مع بعضنا البعض، وفي نفس الوقت كلٍ منا يتبع الجزء المخصص له، بحركة كلها نقاء.

بيرت هيلنجر