حب الإنسانية

 

ما معنى الإنسانية؟

 هو إنني أحب البشر كما هم، وأكون فرحا بهم كما هم. وإني أعترف بأني متساوٍ معهم، وأحب كل فرد بالشيء الخاص به، دون الأمنية بأنه يجب أن يكون غير عما هو، أو أن يغير من نفسه.

وبهذا المعنى، أحب أيضا قدره كما هو. حتى ولو لم أفهمه، وحتى لو تطلب ذلك مني الاستفزاز  والإثارة، وحتى لو تطلب ذلك مني التنازل وتحمل العبء. أن قدره لا يختلف عن قدري سوى في النوعية، وأن أرى بأن هذا القدر هو مشيئة كُتبت لنا، ولا يمكن تحويلها.

 وهنا أستطيع أن أرى بأن قدره وقدري يخضعان لقوى أكبر منا، هذه القوة التي يخضع هو ، واخضع أنا لها بنفس القوة. مهما حملتنا هذه القوة من فرحة  وسعادة، أو حزن  وألم، أو عبء  وراحة . وعند تأييد هذه القوى، ينمو هنا الحب الحقيقي للإنسانية ، كلٍ بنفس المستوى. لأنهم لن يكونوا أفضل أو أسوأ. لن يكونوا أكبر أو أصغر. بل هم جميعهم متساوون أمام شيء أكبر واعظم منهم.

 

ما هو الشيء الذي يقف مجابها لحب الإنسانية؟

إنه الحكم.   ـ الحكم بأن هذه الجماعة أفضل وهذه الجماعة أسوأ. وهنا أنا أحكم بقلبي، مَنْ مسموح لي حبه، ومَنْ غير مسموح لي حبه. مَنْ يستحق التقدير، ومَنْ لا يستحق التقدير. وأخيرا، فإن كل حكم يكون في النهاية غير عادل، لأنه استحقاق. إنه الحكم على حياة وأقدار الآخرين. وكأن لحياته الذاتية ولقدره الذاتي اختلاف في القيمة، أو فيه حق للإنسانية وحق للحياة أكثر من غيره.

أو يمكن قول ذلك بطريقة أخرى: وكأن الخالق قريب منه شخصيا، أو أن الخالق معجب به وراضيا عنه أكثر من غيره. ونحن نسمح لأنفسنا، أن نحكم بمثل حكم الخالق وباسم الخالق على حياة وقدر الغير. بعضهم يحكمون على الغير بالذم، وكأنهم يجلسون على العرش مكان الخالق.

حب البشر هو في الدرجة الأولى تواضع وخنوع. وهذا التواضع ننجح به بسهولة، إذ نحن رأينا أنفسنا ورأينا الآخرين معا. وأن وجودنا ليس مفردا، بل نحن مرتبطين بالعائلة، وبقدر هذه العائلة، وبالضمير العائلي، ولذلك الإخلاص لهذه العائلة، حتى لو كلفنا ذلك التنازل عن المبادئ الإنسانية. 

الأشخاص الآخرون هم أيضا مخلصون ومرتبطون بعائلاتهم، ومحدودين بعائلاتهم كما نحن محدودين بعائلاتنا. هم مشتبكون بقدر عائلاتهم، ونحن مشتبكون كذلك بقدر عائلاتنا. وبهذا المعنى، هم أغنياء وفقراء نفسيا بالدرجة نفسها كما هو حالنا. هم يموتون عندما يحين موعد موتهم، كما نحن أيضا نموت عندما يحين موعد موتنا. وعندئذ نغرق جميعا هم ونحن في عالم النسيان ، ودون ترك أي أثر، هم ونحن بالدرجة نفسها.

فالإنسانية هي أن نقدر بعضنا البعض، ما دمنا على قيد الحياة، ونحب بعضنا بعضا باحترام وتقدير، لأننا مازلنا هنا في دار هذه الحياة. لنسلم ونرحم بعضنا من بعضنا، ونترك الآخرين من شر أنفسنا في هذه الحياة بحريتهم.  كلٍ بمولده،  كلٍٍ بقدره،  كلٍٍ بحريته،  كلٍٍ بذنوبه،  كلٍ بكماله،  وكلٍ بموته.

  حب البشرية بنيّ على نفس هذا التفكير في الحضارة العربية القديمة.  الشعر الذي يلي، يُظهر لنا حب البشرية في العهد العربي القديم، من الشاعر ابن عربي سنة ( 1165 ـ 1240).

 

 لقد صار قلبي

قابلاً

كُل صورةِ

فمرعى لغزلانٍ   ودير لرهبانِ

وبيتٌ لأوثانٍ    وكعبةُ طائفٍ

وألواحُ توراةٍ

ومُصْحفُ قُرآنِ

أدينُ بدينِ الحُبّ

أنّى توجهتْ

ركائبهُ

فالحب ديني وإيماني