الضمير

 

حاسة الاتزان في النظام العائلي

هناك حاسة تربطنا مع الناس ومع المجموعة أو مع العائلة. وهذه الحاسة تطاردنا وتوجهنا بعلاقة معهم، كما تتصرف معنا الحواس الأخرى الغنية بالمعرفة. حالها، حال حاسة الاتزان في السير، التي بدورها تقاوم الجاذبية الأرضية، تسيرنا وتطاردنا وتحافظ على توازننا. من الممكن أن نسقط إلى الأمام أو إلي الخلف، إذا أردنا، أو نسقط إلى اليمين أو إلي الشمال. ولكن ردة الفعل عندنا تجبرنا بإعادة اتزاننا وقبل حدوث الكارثة. وهكذا نتأرجح في الوقت المناسب لنعود إلى الاستقامة. وحتى في علاقتنا التي نكونها، فإن هذه الحاسة، أي (حاسة الاتزان في النظام العائلي) تحرص على كل تصرف نفعله. إنها تؤثر وكأنها ردة فعل لتصحيح أو للمحافظة على التوازن العائلي.

حينما نتعدى في تصرفاتنا القواعد والقوانين، التي هي أساسيات نجاح علاقتنا مع الغير، فإننا بذلك نسيء إلى أنفسنا، ويكون انتماؤنا العائلي مهدد بالخطر. كما هو الحال عند حاسة التوازن في السير. وهكذا فإن حاسة العلاقة ترى الفرد مع محيطه، تعرف المجال المكاني والحدود، وتسيره من خلال الرغبة وعدم الرغبة، أو الرضاء وعدم الرضاء . عدم الرغبة أو عدم الرضاء نشعر بهما كذنب، والرغبة أو الرضاء نشعر بهما كغير ذنب. إذن الذنب وعدم الذنب، نشعر بهما في العلاقة مهما كان نوعها، سواء أبوية أو زوجية أو مع زملاء أو أصدقاء أو غيرهم. فإن كل تصرف يؤثر على الغير، يكون دائما مصطحبا بالشعور بالذنب وعدم الذنب. مثل العين عندما ترى، فهي تفرق بين الظلام والنور، وهكذا تفرق هذه الحاسة في كل لحظة، إذا كان تصرفنا يسيء إلى العلاقة أو يخدم العلاقة. والتصرف الذي يسيء إلى العلاقة نشعره وكأنه ذنب، والتصرف الذي يخدم العلاقة نشعره وكأنه خالي من الذنب. الذنب وعدم الذنب يخدمون الرب الذي يسود فينا.

إنه مثل الحنطور الذي يرغم خيوله لجر العربة، يشد لجام الخيول ويوجههم في أحد الاتجاهات، وهكذا يسوقهم بحبل مشدود، إنهم يتقدمون إلى الأمام وبتأثير متبادل يحافظون على البقاء في التوازن. والحقيقة إنهم يرغبون بأخذ لجامهم بأنفسهم، ولكن الحنطور لا يتركه من يده. ونحن نسير مع مسيرة الخيول في العربة، كسجناء وكضيوف في الوقت نفسه.

والحنطور هنا اسمه ـ الضمير.

 

الضمائر المختلفة

الأشخاص، الذين يأتون من عائلات أو مجموعات مختلفة لهم ضمائر مختلفة. لأن الضمير يطلب من كل واحد التصرف بالشيء الذي يربطه مع مجموعته ويخدمها، ويمنعه من التصرف الذي يفصله عن مجموعته ويسئ إليها. ولكن كل فرد يتبع ضمير المجموعة بطريقة تختلف عن الآخر، لأن التصرف الذي يخدم إحدى المجموعات، فهو من الممكن أن يسئ إلى مجموعة ثانية. والذي يظهر له في مجموعته بغير الذنب، يقذف به في المجموعة الأخرى كمذنب. وحتى الفرد نفسه في داخل مجموعته، فإن الضمير يخدم بعض الأهداف التي تكمل أو تعارض بعضهم البعض. مثلا: الحب، العدل، الحرية والتنظيم. وهنا فإن الضمير يخدم نفسه حسب اختلاف الأهداف، وحسب اختلاف الشعور بالذنب أو عدم الذنب. لذلك فنحن نحس بالذنب وعدم الذنب بطريقة مختلفة. وباختلاف أيضا عندما يخدم الحب والرابطة، وباختلاف آخر عندما يخدم التساوي، وباختلاف عندما يخدم القوانين والتنظيم، أو العادات المتبعة في داخل هذه المجموعة، وباختلاف عندما يخدم التجديد والحرية. ولكن الذي يخدم الحب يسيء للعدالة. والذي يظهر للعدالة بغير ذنب، فهو يصبح للمحب ذنبا.

في بعض الأحيان نعيش الضمير سهل ومحزم. مثلا: عندما نسرع لمساعدة طفل سقط وبحاجة إلى المساعدة. وغالبا يؤثر الضمير باختلاف وبتعدد، وهكذا نشعر باختلاف وتعدد الذنب وعدم الذنب. وبعض الأحيان نحس بالضمير وكأنه شيء وحيد وفردي. نحن نستطيع مشابهة الضمير بالمجموعة، حيث يكون فيها مندوبان مختلفان في أراءهما وفي أهدافهما ومختلفان في شعورهما بما يخص الذنب وعدم الذنب، والبحث عن تطبيقه. أحيانا يساعدان بعضهما البعض، ولكن يراقبان بعضهما البعض لخدمة الكل. وهما يخدمان النظام العائلي، حتى ولو إنهما يتضادان مع بعضهما. وهذا يشبه بدوره قائد الجيش، الذي يحارب في معارك مختلفة، وبرتب مختلفة على أراضٍ مختلفة، وبأدوات مختلفة، وبأساليب مختلفة ليصل إلى نجاح ونصر مختلف، وليصل إلى الكل. وفي النهاية يصل إلى جزء من النجاح. ـ سأقص عليكم قصة تتعلق بذلك.

عدم الذنب

أحدهم يرغب التخلص من الشعور بضيق الصدر والكرب. وهكذا يتجرأ بأن يشق طريقا جديدا. فيسير طويلا، وفي المساء قام بالاستراحة. ورأى مقابله وعلى بعد منه باب مغارة. "غريب" يفكر في داخله. ثم يرغب وعلى الفور الدخول فيها، ولكنه يجد المدخل محكم الإغلاق بباب حديدي. "غريب" يفكر في داخله، "ربما يحدث شيء". ثم جلس مقابل المغارة. ينظر إلى الباب ثم ينظر بعيدا عنه، ثم ينظر إليه ثم بعيدا عنه. وبعد ثلاثة أيام، عندما نظر بعيدا عنه ثم نظر إليه، رأى بأن الباب قد فتح. فتسرع إلى الداخل، وبعد لحظات وجد نفسه يقف في الخارج مرة أخرى. "غريب" يفكر في داخله، يفرك عينيه، ثم يجلس مرة ثانية. فرأى على بعد منه، دائرة صغيرة بيضاء مثل الثلج. وفي داخل هذه الدائرة رأى نفسه محبوسا فيها، يجلس بضيق متكورا على نفسه في داخلها. وحول هذه الدائرة، يلتهب بسواد كبير ظل النار وكأنها بالقوة تريد الدخول إلى الدائرة. "غريب" يفكر في داخله، "ربما يحدث شيء". ثم جلس مقابل الدائرة ونظر إليها ثم نظر بعيدا عنها، ثم نظر إليها ثم بعيدا عنها. وبعد ثلاثة أيام، عندما أبعد نظره ثم نظر إليها مرة ثانية. رأى بأن الدائرة الصغيرة قد فتحت ولهب النار خبط في داخلها. وهنا اتسعت الدائرة. ورأى في النهاية، بأنه يستطيع أن يمد نفسه فيها. ولكن هذه المرة رأى نفسه كبير السن و غزير الشيب.

إذا كان في العلاقة أو في المجموعة انحدار بين الذي يتمتع بالحسنات والذي يعاني من السيئات. فإن جميع المشتركين في هذه العلاقة يكونون بحاجة إلى التساوي وهم يحسون بالرغبة الملحة في التساوي. إنهم يشعرون به، وكأنه مطلب الضمير. وأن لم يتبعوه بوعي، فهم سيتبعونه بلا وعي وبطريقة فطرية. نحن نعيش الضمير وكأنه حارس محافظة على التوازن الحسي. وهذه المطالب في التساوي نحس بها مقابل القدر الجيد، أي عندما نحصل على الحظ والسعادة دون تعب ومعاناة. عندما يعطيني أحدهم شيئا، أو أنا أخذ شيئا، مهما كان جمال أو جودة هذا الشيء، فأنا أشعر بعدم الرغبة. وأنا أحس بذلك وكأنه ضغط، حتى أقدم أنا أيضا شيئا بما يساوي الشيء الذي أخذته. وهذا أعيشه وكأنه واجب يجب رده. وإذا قدمت أنا شيئا يساوي الشيء الذي أخذته، فأنا أشعر بأني تحررت من هذا الواجب. والشعور بأن نكون دون واجب، نعيشه وكأنه خفيف وحر. وعندما أرفض الأخذ، فأنا أعيش ذلك بخفة وحرية أيضا، لأنه يحررني من الواجب. مثلا: المساعدون الذين يعملون بمؤسسات وجمعيات خيرية، فهم يعطون ولا يأخذون، ولكن هذا النوع من الحرية يجعلهم وحيدين وفقراء النفس.

التساوي السيئ

غالبا الذي يكون ساريا مفعوله في المجموعة وبين الأفراد، يحملونه للقدر ولله. مثلا: عندما يُنقذ أحدهم من كارثة قد مات فيها أشخاص كثيرون غيره، فإنه يشعر بأنه مدان لله وللقدر. وكأنهما بالنسبة له شيء مقابل، ويتصرف مع الله ومع القدر وكأنهما أشخاص آخرون مدان لهم. ويعتقد بأنه عندما يقدم التساوي، فإنه يخفف من شدة حنق الله والقدر. التساوي هنا يكون، بأن يبني الفرد الحواجز والعواقب لنفسه، أو اختيار مرض ما لجسده ليتمتع بعوارض هذا المرض، أو ينذر نذرا، أو يضحي بشيء ثمين له، مثلا الطفل، أو شخص آخر يضحي بنفسه من داخل العائلة بدلا عنه، وغالبا يكون الابن أو البنت.

وفي العلاقة الزوجية، فإن الشريك لا يأخذ بالآخر، إذا كان هذا قد كان مرتبطا قبل الزواج بشخص آخر غيره، أو عند موت الشريك الأول. إنه يرفض الأخذ بشريكه، لأنه يشعر بأنه يأخذ هذا الشريك على حساب الآخر. أو الأبناء من الزواج الثاني، لا يأخذون بآبائهم أو يضعون حواجز بينهم وبين آبائهم، أو يقتبسون مرضا بحب، لأن غيرهم من أبناء الزواج الأول تركوا لهم مكانهم.

والأكثر سوءا في التساوي السيئ هو، عندما يعتقدون أن القدر كان إلى لجانبهم ولصالحهم، وبأنهم مُختارون من عند الله. فينفخون ويتفاخرون بالحظ والقدر الجيد الذي هو لصالحهم. وهنا فإن الحظ يتحول ضدهم. مهما كان تفسيرنا لذلك ـ لأنه ليس فقط هم ـ (أنفسهم)، بل أيضا الآخرون الذين من حولهم، لا يتحملون هذا التصرف.

 

التساوي بالشكر والتواضع

يمكننا الأخذ من القدر كما هو لائق ومناسب. عندما نأخذ الشيء الجيد بفرحة وسعادة، والذي حصلنا عليه دون جهد وكأنه هديه. فإن هذا هو الشكر. إذن الشكر هو الأخذ بغير تعالي. فهنا يتم التساوي دون دفع ثمن مقابل. وهذا النوع من الشكر يختلف تماما عن لو قلنا لغيرنا شكرا. عندما أقدم هدية لشخص آخر، وهو يرد عليّ شاكرا، فهذا قليل جدا. أما عندما ينير ويقول "أن هذه هدية جميلة"، فهنا يكون الشكر أكبر وأعمق. فهو بذلك يقدرني ويقدر عطائي. النطق بالشكر، يكون في الغالب بديلا عن هذا النوع من الشكر. بعضهم يفعلون ذلك مع الله والقدر. إنهم يقولون شكرا بدل الأخذ بحب. والذي يأخذ الهدايا التي يحصل عليها دون جهد، أو بالأحرى هدايا القدر، ورغم ذلك يشعر بالضغط، فيجب عليه فعل شيء جيد. بدلا من أن يبني الحواجز حوله، فالأفضل أن يعطي جزء من الذي حصل عليه للآخرين. هذا يخفف الثقل عنه، وفي الوقت نفسه يجلب الخير للغير. وكما هو واجب عليّ أخذ الخير والشيء الجيد، الذي جاءني دون تعب، فيجب عليّ كذلك الرضاء بالسوء الذي جاءني دون تحمل ذنب شخصي. يجب عليّ أن أتناسق مع القدر بالخير والشر. فأنا هنا أتجاوب معه وأصبح حرا. وهذا التجاوب يظهر بشكل تواضع أمام الله والقدر، وأمام المجموعة أو العائلة التي تحيطني.